سورة البقرة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)} [البقرة: 2/ 99- 103].
تالله لقد أنزلنا إليك أيها الرسول آيات ودلائل واضحات تدلّ على صدق رسالتك، ولا يكفر بها إلا المتمرّدون على آياتها وأحكامها من الفسقة المتجاوزين الحدود، والذين استحبّوا العمى على الهدى، حسدا وعنادا ومكابرة.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عبد اللّه بن صوريا قال للنّبي صلّى اللّه عليه وسلم: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل اللّه عليك من آية بيّنة، فأنزل اللّه في ذلك: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ}.
إنهم كفروا بالله، وكلما عاهدوا عهدا مع اللّه، أو مع رسول اللّه، نقضه فريق منهم، بل نقضه أكثرهم ولم يوفوا به، وأكثرهم لا يؤمنون بالتوراة، وليسوا من الدين في شيء، ولن يؤمنوا بالقرآن ونبي الإسلام.
وسبب نزول هذه الآية: أن مالك بن الصيف حين بعث رسول اللّه، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد قال: واللّه ما عهد إلينا في محمد، ولا أخذ علينا ميثاقا، فأنزل اللّه تعالى: {أَوَكُلَّما عاهَدُوا...} الآية.
ولما جاءهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلم بكتاب مصدق ومؤيد للتوراة في أصول الدين العامة، كتوحيد اللّه، وإثبات البعث، والتصديق بالوحي والرّسل، ترك فريق من اليهود كتاب اللّه وراء ظهورهم، وهو تمثيل لتركهم وإعراضهم عنه، ولم يؤمنوا به بحق، كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة لا يكون مؤمنا بكل منهما.
واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة، السّحر والشّعوذة في زمن ملك سليمان، لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، ويضمون إليه أكاذيب، ثم يلقنونها الكهنة، فيعلّمونها الناس، ويقولون: هذا علم سليمان، وقام ملك سليمان بهذا. فردّ اللّه تعالى عليهم بأن سليمان ما فعل ذلك، وما عمل سليمان بالسّحر، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتّباع السّحر وتدوينه وتعليمه الناس على وجه الإضرار والإغواء، ونسبته إلى سليمان على وجه الكذب وجحد نبوته.
قال ابن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان كان نبيّا، واللّه ما كان إلا ساحرا، فأنزل اللّه: {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ}.
ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببلدة بابل (في العراق في أرض الكوفة) والملكان:
بشران صالحان قانتان، صاحبا هيبة ووقار يجلّهما الناس وشبّهوهما بالملائكة، وهما هاروت وماروت.
وكان هذان الرجلان الملكان يعلّمان الناس السّحر الذي كثرت فنونه الغريبة في عصرهم، وكانت معرفتهم بالسّحر بالإلهام دون معلم، وهو المقصود بالإنزال، وما ألهموا به كان من جنس السّحر، لا عينه.
وكان هذان الملكان يتبعان في تعليم السّحر طريق الإنذار والتحذير، فلا يعلّمان أحدا من الناس، حتى يقولا له: إنما نحن ابتلاء واختبار من اللّه، فلا تعمل بالسّحر وإلا كنت كافرا، وذلك حفاظا على حسن اعتقاد الناس فيهما.
ويتعلم الناس منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، وليس للسحر ونحوه من الحسد والعين والمرض المعدي ضرر بذاته، إلا بإذن اللّه ومراده، وذلك على وفق قانون السببية، أي إنه مجرد وسيلة أو سبب قد يرتبط المسبب أو النتيجة به، ويتحقق الأذى، إذا شاء اللّه، فالله هو الذي يوجد المسببات، حين حصول الأسباب، وقد لا تتحقق النتائج بمراد اللّه تعالى. قال الحسن البصري: من شاء اللّه منعه، فلا يضرّه السّحر، ومن شاء خلّى بينه وبينه فضرّه.
ومن تعلم السّحر وعمل به، فإنه يتعلم ما يضرّه ولا ينفعه، لأنه سبب في إضرار الناس، ولأنه قصد الشّر، فيكرهه الناس لإيذائه، ويعاقبه اللّه في الآخرة لإضرار غيره، وإفساده المصالح.
وتالله لقد علم اليهود بأنّ من ترك كتاب اللّه، وأهمل أصول الدين وأحكام الشريعة التي تسعد في الدارين، واستبدل به كتب السّحر، ليس له في الآخرة إلا العذاب، وكأن هذه عملية بيع الآخرة بالدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب من الخير.
ولبئس ما باعوا به أنفسهم باتخاذ السّحر محل التوراة، فهم جهلة لا يعلمون حرمة السّحر علما صحيحا.
ولو أن اليهود آمنوا الإيمان الحق بالتوراة، وفيها البشارة بنبي آخر الزمان، وآمنوا بالقرآن، وتركوا كتب السّحر والشّعوذة، واتّقوا اللّه بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه، لاستحقّوا الثواب العظيم من عند اللّه، جزاء على أعمالهم الصالحة، وهو خير لهم لو كانوا يعلمون العلم الصحيح النافع.
مصدر النّبوة والأدب مع النّبي صلّى اللّه عليه وسلم:
اليهود قوم مخادعون، يتلاعبون بالألفاظ، وينشرون الأذى على الناس كما تنشر الأفعى سمومها، ويحقدون على الآخرين، ولا سيما العرب، وكانوا يتوقعون أن يكون نبي آخر الزمان منهم، فلما بعث من العرب عادوه وآذوه. وقد حذّر القرآن الكريم المؤمنون من محاكاة ألفاظهم واتّباع أساليبهم، وهذا ما صرّحت به الآيات التالية:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 2/ 104- 105].
قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها، فلما سمعهم اليهود يقولونها للنّبي صلّى اللّه عليه وسلم أعجبهم ذلك، وكان قول (راعنا) في كلام اليهود سبّا قبيحا، فقالوا: إنا كنا نسبّ محمدا سرّا، فالآن أعلنوا السّبّ لمحمد، فإنه من كلامه، فكانوا يأتون نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن معاذ، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء اللّه، عليكم لعنة اللّه، والذي نفس محمد بيده، لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا} الآية.
كان اليهود يستعملون كلمة (راعنا) بقصد السّبّ ونسبة الجهل والحمق للمخاطب، وكانوا يقولون إذا ألقى عليهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلم شيئا من العلم: راعنا سمعك، أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه، ونراجعك القول لنفهم عنك. وهم يقصدون بها معنى السّب والشّتم، وأصلها في العبرية: (راعينو) أي شرّير، فنهى اللّه المؤمنين عن هذه الكلمة، وأمرهم بكلمة تماثلها في المعنى، وتختلف في اللفظ، وهي (انظرنا) التي يراد بها النظر إلينا، أو الإنظار والإمهال، أي أقبل علينا وانظر إلينا.
واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول وتدبّر وإمعان، وللكافرين ومنهم اليهود عذاب مؤلم شديد. وهذا دليل على أن ما صدر منهم من سوء أدب في خطاب النّبي صلّى اللّه عليه وسلم كفر، لأن من يصف النّبي بأنه (شرير) فقد أنكر نبوّته، فصار هذا أدبا للمؤمنين، وتشنيعا على اليهود.
واحذروا أيها المؤمنون خبائث اليهود وألوان مكرهم وكيدهم، فما يودّ أهل الكتاب ومشركو العرب أن ينزل عليكم من خير، من ربّكم، كالقرآن والرّسالة النّبوية، والكتاب الكريم أعظم الخيرات، فهو الهداية العظمى، وبه جمع اللّه شملكم ووحّد صفوفكم، وطهّر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وهم يودّون نزول الشّر بكم، وانتهاء أمركم، وزوال دينكم.
وحسد الحاسد لا يمنع نعم اللّه، واللّه العليم القدير الحكيم يختص بالنّبوة والرحمة والخير من يشاء من عباده، لقوله تعالى في آية أخرى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [الأنعام: 6/ 124] ويعلم من يؤدي واجبه بشأنها خير أداء، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربّه، فالله وحده صاحب الفضل العظيم.
قال المفسّرون في بيان سبب نزول هذه الآية: إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم، قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه، ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل اللّه تعالى تكذيبا لهم.
هذا اللفظ المستخدم (راعنا) وهذا الحسد في منح النّبوة لعربي: يدلان على أن اليهود ذوو مشاعر حاقدة وبغيضة نحو غيرهم من قديم الزمان، فينبغي الحذر منهم ومن نواياهم العدوانية، وأفعالهم القبيحة، ولا يتوقع منهم خير، لا في فلسطين ولا في غيرها من بلاد العالم، ولا يفهمون بغير لغة القهر والرّعب، والكبت والنّيل منهم بمختلف الوسائل.
نسخ بعض الأحكام الشرعية في حال حياة النّبي:
هناك طائفة قليلة من الأحكام الشرعية قررت لزمان معين وظرف محدد، ثم نسخت وأبطلت، مراعاة لمصالح الناس، وانسجاما مع ظروف التطور والتبدل التي تطرأ على المجتمع، وتذكيرا بنعمة اللّه حيث ينتقل بالتشريع من حكم إلى حكم أفضل، ويتدرج بالناس تبعا للظروف والأحوال، فلم يكن النسخ لجهل المشرّع الحكيم بالحكم الأخير الذي يستقرّ تشريعا دائما إلى يوم القيامة، وإنما يعالج الشّرع الأمور حسبما تقتضي الحكمة ويلائم الأوضاع والحاجات الآنية والمستقبلية، واللّه وحده هو القادر على كل شيء، فيقرر حكما لفترة زمنية محددة، ثم يقرر حكما آخر لترويض المكلفين وإعدادهم لتحمّل التكليف تدريجا. قال اللّه تعالى:


{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)} [البقرة: 2/ 106- 107].
ثم ردّ اللّه على اليهود الذين ينكرون وجود النسخ في الشريعة فقال:

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12